فصل: تفسير الآيات (20- 24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (15):

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (15)}
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ} أي ينقادون لإحداث ما أراده فيهم من أفعاله، شاؤا أو أبوا. لا يقدرون أن يمتنعوا عليه، وتنقاد له {ظلالهم} أيضاً حيث تتصرف على مشيئته في الامتداد والتقلص، والفيء والزوال. وقرئ: {بالغدو والإيصال}، من آصلوا: إذا دخلوا في الأصيل.

.تفسير الآية رقم (16):

{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)}
{قُلِ الله} حكاية لاعترافهم وتأكيد له عليهم؛ لأنه إذا قال لهم: من رب السموات والأرض، لم يكن لهم بدّ من أن يقولوا الله. كقوله: {قُلْ مَن رَّبُّ السموات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 86] وهذا كما يقول المناظر لصاحبه: أهذا قولك فإذا قال: هذا قولي قال: هذا قولك، فيحكي إقراره تقريراً له عليه واستيثاقاً منه، ثم يقول له: فيلزمك على هذا القول كيت وكيت. ويجوز أن يكون تلقيناً، أي: إن كعوا عن الجواب فلقنهم، فإنهم يتلقنونه ولا يقدرون أن ينكروه {أفاتخذتم مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء} أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم وإقراركم سبب الإشراك {لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرّا} لا يستطيعون لأنفسهم أن ينفعوها أو يدفعوا عنها ضرراً، فكيف يستطيعونه لغيرهم وقد آثرتموهم على الخالق الرازق المثيب المعاقب، فما أبين ضلالتكما {أَمْ جَعَلُواْ} بل أجعلوا. ومعنى الهمزة الإنكار و{خَلَقُواْ} صفة لشركاء، يعني أنهم لم يتخذوا لله شركاء خالقين قد خلقوا مثل خلق الله {فَتَشَابَهَ} عليهم خلق الله وخلقهم، حتى يقولوا: قدر هؤلاء على الخلق كما قدر الله عليه، فاستحقوا العبادة، فنتخذهم له شركاء ونعبدهم كما يعبد، إذ لا فرق بين خالق وخالق؛ ولكنهم اتخذوا له شركاه عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق، فضلاً أن يقدروا على ما يقدر عليه الخالق {قُلِ الله خالق كُلّ شَيْء} لا خالق غير الله، ولا يستقيم أن يكون له شريك في الخلق، فلا يكون له شريك في العبادة {وَهُوَ الواحد} المتوحد بالربوبية {القهار} لا يغالب، وما عداه مربوب ومقهور.

.تفسير الآية رقم (17):

{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)}
هذا مثل ضربه الله للحق وأهله والباطل وحزبه، كما ضرب الأعمى والبصير والظلمات والنور مثلاً لهما، فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزله من السماء فتسيل به أودية الناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع، وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحليّ منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة، ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفي به، وأن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهراً، يثبت الماء في منافعه. وتبقى آثاره في العيون والبئار والجبوب، والثمار التي تنبت به مما يدّخر ويكنز، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة. وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة، بزبد السيل الذي يرمي به، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب.
فإن قلت: لم نكرت الأودية؟ قلت: لأن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوبة بين البقاع، فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض.
فإن قلت: فما معنى قوله: {بِقَدَرِهَا}؟ قلت: بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضارّ. ألا ترى إلى قوله: {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس} لأنه ضرب المطر مثلا للحق، فوجب أن يكون مطراً خالصاً للنفع خالياً من المضرة، ولا يكون كبعض الأمطار والسيول الجواحف.
فإن قلت: فما فائدة قوله: {ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع}؟ قلت: الفائدة فيه كالفائدة في قوله: {بِقَدَرِهَا} لأنه جمع الماء والفلز في النفع في قوله: {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس} لأنّ المعنى: وأما ما ينفعهم من الماء والفلز فذكر وجه الانتفاع مما يوقد عليه منه ويذاب، وهو الحلية والمتاع. وقوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع} عبارة جامعة لأنواع الفلز، مع إظهار الكبرياء في ذكره على وجه التهاون به كما هو هجيرى الملوك، نحو ما جاء في ذكر الآجر {أوْقِدْ لِى ياهامان عَلَى الطين} [القصص: 38] و (من) لابتداء الغاية. أي: ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء. أو للتبعيض بمعنى وبعضه زبداً رابياً منفخاً مرتفعاً على وجه السيل [{جُفَآءً} يجفؤه السيل:]، أي يرمي به. وجفأت القدر بزبدها، وأجفأ السيل وأجفل. وفي قراءة رؤبة ابن العجاج: جفالا وعن أبي حاتم: لا يقرأ بقراءة رؤبة، لأنه كان يأكل الفأر. وقرئ: {يوقدون}، بالياء: أي يوقد الناس.

.تفسير الآية رقم (18):

{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)}
{لِلَّذِينَ استجابوا} اللام متعلقة بيضرب، أي كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا، وللكافرين الذين لم يستجيبوا، أي: هما مثلا الفريقين. و{الحسنى} صفة لمصدر استجابوا، أي: استجابوا الاستجابة الحسنى. وقوله {لَوْ أَنَّ لَهُمْ} كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين. وقيل: قد تم الكلام عند قوله: {كذلك يَضْرِبُ الله الامثال} [الرعد: 17] وما بعده كلام مستأنف. والحسنى: مبتدأ، خبره {لِلَّذِينَ استجابوا} والمعنى: لهم المثوبة الحسنى، وهي الجنة {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ} مبتدأ خبره، (لو) مع ما في حيزه و{سُوء الحِسَابِ} المناقشة فيه.
وعن النخعي: أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر منه شيء.

.تفسير الآية رقم (19):

{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)}
دخلت همزة الإنكار على الفاء في قوله {أَفَمَن يَعْلَمُ} لإنكار أن تقع شبهة بعد ما ضرب من المثل في أنّ حال من علم {أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الحق} فاستجاب، بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب: كبعد ما بين الزبد والماء والخبث والإبريز {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الألباب} أي الذين عملوا على قضيات عقولهم، فنظروا واستبصروا.

.تفسير الآيات (20- 24):

{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)}
{والذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله} مبتدأ. و{أُوْلَئِكَ لَهُمْ عقبى الدار} خبره كقوله: والذين ينقضون عهد الله أولئك لهم اللعنة. ويجوز أن يكون صفة لأولي الألباب، والأوّل أوجه. وعهد الله: ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] {وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق} ولا ينقضون كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه: من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين الله وبين العباد، تعميم بعد تخصيص {مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} من الأرحام والقرابات، ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله وقرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] بالإحسان إليهم على حسب الطاقة، ونصرتهم، والذب عنهم، والشفقة عليهم، والنصيحة لهم، وطرح التفرقة بين أنفسهم وبينهم، وإفشاء السلام عليهم، وعيادة مرضاهم، وشهود جنائزهم. ومنه مراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر، وكل ما تعلق منهم بسبب، حتى الهرة والدجاجة.
وعن الفضيل بن عياض أنّ جماعة دخلوا عليه بمكة فقال: من أين أنتم؟ قالوا: من أهل خراسان. قال: اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم، واعلموا أنّ العبد لو أحسن الإحسان كله وكانت له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أي يخشون وعيده كله {وَيَخَافُونَ} خصوصاً {سُوء الحِسَابِ} فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا {صَبَرُواْ} مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ومشاق التكليف {ابتغاء وَجْهِ} الله، لا ليقال: ما أصبره وأحمله للنوازل، وأوقره عند الزلازل، ولا لئلا يعاب بالجزع ولئلا يشمت به الأعداء كقوله:
وَتَجَلُّدِي لِلشّامِتِينَ أُرِيِهمُ

ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ولا مردّ فيه للفائت، كقوله:
مَا أنْ جَزعْتُ وَلاَ هَلَعْ ** تُ وَلاَ يَرُدُّ بُكاي زَنْدَا

وكل عمل له وجوه يعمل عليها، فعلى المؤمن أن ينوي منها ما به كان حسناً عند الله، وإلا لم يستحق به ثواباً، وكان فعلا كلا فعل {مّمّا رزقناهم} من الحلال؛ لأنّ الحرام لا يكون رزقاً ولا يسند إلى الله {سِرّا وَعَلاَنِيَةً} يتناول النوافل، لأنها في السر أفضل والفرائض، لوجوب المجاهرة بها نفياً للتهمة {وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة} ويدفعونها عن ابن عباس: يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيء غيرهم.
وعن الحسن: إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا.
وعن ابن كيسان: إذا أذنبوا تابوا. وقيل: إذا رأوا منكراً أمروا بتغييره {عقبى الدار} عاقبة الدنيا وهي الجنة، لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها و{جنات عَدْنٍ} بدل من عقبى الدار. وقرئ {فنعم} بفتح النون. والأصل: نعم فمن كسر النون فلنقل كسرة العين إليها، ومن فتح فقد سكن العين ولم ينقل وقرئ: {يدخلونها} على البناء للمفعول.
وقرأ ابن أبي عبلة {صلُح} بضم اللام، والفتح أفصح، أعلم أنّ الأنساب لا تنفع إذا تجردت من الأعمال الصالحة. وآباؤهم جمع أبوي كل واحد منهم، فكأنه قيل من آبائهم وأمهاتهم {سلام عَلَيْكُمُ} في موضع الحال، لأنّ المعنى: قائلين سلام عليكم أو مسلمين، فإن قلت: بم تعلق قوله {بِمَا صَبَرْتُمْ}؟ قلت: بمحذوف تقديره: هذا بما صبرتم، يعنون هذا الثواب بسبب صبركم، أو بدل ما احتملتم من مشاق الصبر ومتاعبه هذه الملاذ والنعم والمعنى: لئن تعبتم في الدنيا لقد استرحتم الساعة، كقوله:
بِمَا قَدْ أرَى فِيهَا أوَانِسَ بُدَّنَا

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول «السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار» ويجوز أن يتعلق بسلام، أي نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم.

.تفسير الآية رقم (25):

{وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)}
{مِن بَعْدِ ميثاقه} من بعد ما أوثقوه به من الاعتراف والقبول {سُوء الدار} يحتمل أن يراد سوء عاقبة الدنيا، لأنه في مقابلة عقبى الدار، ويجوز أن يراد بالدار جهنم، وبسوئها عذابها.

.تفسير الآية رقم (26):

{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)}
{الله يَبْسُطُ الرزق} أي الله وحده هو يبسط الرزق ويقدره دون غيره، وهو الذي بسط رزق أهل مكة ووسعه عليهم {وَفَرِحُواْ} بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لافرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم، ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة، وخفي عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئاً نزرا يتمتع به كعجالة الراكب، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو نحو ذلك.

.تفسير الآيات (27- 29):

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ (29)}
فإن قلت: كيف طابق قولهم {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ} قوله: {قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء}؟ قلت: هو كلام يجري مجرى التعجب من قولهم، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤتها نبيّ قبله، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية، فإذا جحدوها ولم يعتدّوا بها وجعلوه كأن آية لم تنزل عليه قط، كان موضعاً للتعجب والاستنكار، فكأنه قيل لهم: ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم: إن الله يضل من يشاء ممن كان على صفتكم من التصميم وشدّة الشكيمة في الكفر، فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت كل آية {وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ} كان على خلاف صفتكم {أَنَابَ} أقبل إلى الحق، وحقيقته دخل في نوبة الخير، و{الذين ءَامَنُواْ} بدل من {مَنْ أَنَابَ} {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله} بذكر رحمته ومغفرته بعد القلق والاضطراب من خشيته، كقوله: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} [الزمر: 23] أو تطمئن بذكر دلائله الدالة على وحدانيته، أو تطمئن بالقرآن لأنه معجزة بينة تسكن القلوب وتثبت اليقين فيها {الذين ءَامَنُواْ} مبتدأ، و{طوبى لَهُمْ} خبره. ويجوز أن يكون بدلاً من القلوب، على تقدير حذف المضاف، أي: تطمئن القلوب قلوب الذين آمنوا، وطوبى مصدر من طاب، كبشرى وزلفى، ومعنى {طوبى لك} أصبت خيراً وطيباً، ومحلها النصب أو الرفع، كقولك: طيباً لك، وطيب لك، وسلاماً لك، وسلام لك، والقراءة في قوله {وحسن مآب} بالرفع والنصب، تدلك على محليها. واللام في {لَهُمْ} للبيان مثلها في سقيا لك، والواو في طوبى منقلبة عن ياء لضمة ما قبلها، كموقن وموسر وقرأ مكوزة الأعرابي: {طيبى لهم}، فكسر الطاء لتسلم الياء، كما قيل: بيض ومعيشة.